النوبة لا تزال نبع الإبداع 

النوبة لا تزال نبع الإبداع 

كتب / عز الدين نجيب 

ظلت بلاد النوبة طوال ٦٠ عاما - وحتى اليوم - نبعا للإلهام لا ينضب الأجيال الفنانين التشكيليين ، منذ اكتشف جمالها الأخاذ الأخوان سيف وأدهم وانلى عام ١٩٥٩ بتكليف من د. ثروت عكاشة أول وزير فعلى للثقافة) ، في سياق التمهيد لبناء السد العالى ، وذلك للقيام بتسجيل معالم القرى النوبية قبل غرقها أسفل بحيرة السد ، ثم تلتهما تباعا قوافل الفنانين ، ليقوموا بأكبر اكتشاف تشكيلى فى القرن الماضي ، لما

تزخر به تلك المنطقة - بناسها وعمارتها الطينية وطبيعتها البكر ومخزونها الثقافى الغنى وعادات وسمات أهلها الطيبين من ملامح جمالية أصبحت إحدى الدوال البصرية عن الهوية المصرية ، ولا أغالى إذا قلت إن ما قام به جيل الستينيات من التشكيليين قد صنع من تلك

الملامح - مع امتزاجها بفنون الحضارة المصرية القديمة - القاعدة الصلبة لحركة الفن المصرى الحديث في العقود التالية، كل بأسلوبه ومدرسته الفنية ، مع التفاعل والتأثر الجمالي بتيارات الحداثة العالمية ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بارتياح المدرسة المصرية الحديثة" ،

والتى تتعرض اليوم للذوبان والتوهان الفنانة مرفت الشاذلى تعد آخر من يتمسك بهذا التراث بين الفنانين

المعاصرين ، وهى لم تكن لتصبح إلا كذلك ، ليس فقط لأنها نوبية المولد والنشأة والثقافة ، بل لأنها ظلت محتشدة برصيد لا ينفد من رؤى جمالية يمتزج فيها المادى بالمعنوى ، الواقعى بالأسطوري ، الإنسانى بالجغرافي ، ولأنها قادرة على مزج ذلك كله بالحداثي والغرائبي والحوشى من تيارات الفن الحديث ، فقد استطاعت ان تنحت لنفسها منصة تشع من فوقها بوميض الأصالة والحداثة بين أقرانها من المصورين المعاصرين بغير تكلف أو ادعاء ، كونها تتكلم بلغتها الأصلية وتستدعى ذكرياتها وأحلامها القديمة بلغة معاصرة. في معرضها الجديد بقاعة بيكاسو تحت عنوان "فيض النور" تعاود استدعاء أحلامها المستحمة بمياه النيل وشمس النوبة القديمة ، فيما تنعكس البيوت وأشجار النخيل على صفحة النهر الخالد ، فتتحول إلى أنغام بصرية تعادل استرسال صوت الفنان محمد منير وهو يغنى أغانيه العذبة محلقا بأجنحة الحب والحنين والفرح بالحياة ، وبقدر ما تأخذنا خيالاتها التشكيلية بين الحصان المُحَنّى برسوم الصبايا التي كن يرسمنها على واجهات بيوتهن القديمة ، وبين رمزية السمكة للعطاء والخير ، وغموض القط الأسود المتسلل والديك المؤذن للفجر إلى أجواء الأحلام وإيحاءات الأسطورة ، فإن ما يستولى على مشاعرنا أكثر هو فيض النور المصفى ، ووهج الألوان النقية الصراحة بالموسيقى ، بقليل من المزج والتداخل والدرجات البينية فيما بينها.. إنه الإحساس الطازج بالطبيعة الخام المفتوحة على الآفاق الرحبة ، حيث يتلاشى الفاصل بين أفق الطبيعة المرئية المحدودة وأفق الأحلام اللامحدودة ، كما نشعر بكل هذا ينبض كنبضات القلب فوق مدارج ومصاطب تتبادل فوقها الألوان أماكنها بما يشبه انتظام مدارج التصوير المصرى القديم ، بعيدا عن رتابته وزخرفيته ، تأخذنا كذلك انتقالات هذه الألوان بين حوشية ألوان جوجان الاستوائية فى تاهيتي وبين تأجج ألوان محمد ناجي في مرحلته الحبشية ، وتأخذنا كذلك انسيابية أجسام الأشخاص المستلقين بأزيائهم النوبية ، في تواز صريح مع انسيابية نهر النيل وهم يطلون عليه مع امتداد مدرجات الجبل ومصاطب الزرع ، حيث يزدهر الأخضر الصافى مستحما بنور الشمس. أمام هذه السيمفونية المتناغمة، فإن بعض الوجوه المرسومة بواقعية وتجسيم يقترب من وجوه الفيوم الأثرية ، تبدو نشازا مقلقا للعين وسط هذا البهاء النوراني واللونى المنساب ، فكأنها رسمت بيد فنان آخر يستعرض مهاراته الأكاديمية فى رسم البورتريه في غير مكانها ، حتى ولو غربتها الفنانة عن الواقع بصبغها باللون الأخضر ، إنها بلا شك

إحدى مهارات مرفت المكتسبة من دراستها الأكاديمية ، وقد يعز عليها أن تخفيها عن أعين مشاهديها ، وقد تجد من يستمتع بها ، مثلما يراودها هي الحنين إلى ذلك الأسلوب الأكاديمى ، ولست ضد ذلك ، لكن الأمر هنا يتعلق بارتباك الوحدة العضوية فى اللوحة بين المسطح والمجسد ، وبين الخيالى والواقعى المباشر ، ولو شئنا تقريب الأمر للقارئ نقول إننا نجد أنفسنا أمام قصيدة من الشعر المنثور أو شعر التفعيلة الحر ، وفجأة يعترض انسيابها الموسيقى الحربيت من الشعر

العمودى بطنين القافية على أي حال فإن تيار النيل الذى يبدو متدفقا بين ثنايا لوحاتها كفيل - مع الوقت - بإذابة واحتواء ما يطفو على سطحه مما لا ينسجم معه!