مدينة الفسطاط.. أول وأقدم العواصم الإسلامية

مدينة الفسطاط.. أول وأقدم العواصم الإسلامية

 

على بعد ميلين تقريبًا من القاهرة، وعلى ساحل النيل في طرفه الشمالي الشرقي، وتحديدا بالقرب من حصن بابليون، توجد واحدة من أول وأقدم العواصم الإسلامية، ألا وهي مدينة "الفسطاط". فعندما وصل العرب المسلمون بقيادة عمرو بن العاص إلى مصر، وجدوا بها مدينتين كبيرتين هما الإسكندرية على شاطئ البحر المتوسط، وتعد العاصمة الأولى لقربها من الإمبراطورية الرومانية الشرقية، صاحبة السيادة وقتذاك، وبابليون الثانية وتقع عند رأس الدلتا بحيث تشرف على الوجهين البحري والقبلي، وعلى شاطئ النيل مما يسهل اتصالها بكل أطراف القطر المصري، بالإضافة إلى توسطها بين النيل غربا- وهو مورد ماء لا ينفد- وبين الجبل المقطم شرقا وهو حد طبيعي لحمايتها.

وبعدما استولى عمرو بن العاص الفاتح العربي المسلم على حصن بابليون- كما يسميه المؤرخون العرب الأوائل- ترك فيه حامية وتوجه إلى الإسكندرية، عاصمة البلاد، وجرى فتحها بعد أن حاصرها ستة أشهر، وكان على عمرو بعد ذلك أن يتخذ لنفسه عاصمة يستقر بها مع جنوده الفاتحين، وفي بداية الأمر لم يرد الفاتح الكبير أن يكلف نفسه عناء البناء، فوقع اختياره على الإسكندرية حينما وجد بيوتها جاهزة، وقال "مساكن قد كُفيناها"، لكن الخليفة عمر بن الخطاب رفض اتخاذ مدينة الإسكندرية عاصمة للبلاد – والتي كانت عاصمة لمصر طوال عهد البطالمة والرومان- ووقع اختيار عمرو بن العاص على موقع خال من البناء والعمارة عدا الحصن الروماني، لتأسيس العاصمة الجديدة، وأطلق عليها اسم "الفسطاط"، لتكون قاعدة للبلاد ودارا للإمارة وذلك عام ٢١هجرية، ٦٤١ميلادية.

 وبدأت عمارتها ببناء جامع عمرو بن العاص الذي أطلق عليه فيما بعد اسم "الجامع العتيق". واختطت القبائل العربية التي تألف منها جيشه حول الجامع، فاختير لكل جماعة "خطة" تنزل بها، وكان جملة سكان هذا المعسكر ١٥٫٥٠٠ وهم عدد الجنود المشاركين في الفتح"، واستمر التوسع العمراني في المدينة حتى كثرت الحارات والأزقة والدروب، وكلمة الفسطاط تعنى المعسكر، وسُميت المدينة بذلك، لأن عمرو حينما توجه لفتح الإسكندرية ألفى حمامة قد باضت على أطراف خيمته، فأبقى لها الخيمة منصوبة حتى عاد، ليشيد في ذلك الموضع أول عاصمة لمصر الإسلامية.

اختلف المؤرخون حول من اختط مدينة الفسطاط، فورد البلاذري في فتوح البلدان أنه الزبير بن العوام رضي الله عنه، وقد بنى في منتصفها دارا له جعل فيه سلمه الذي صعد عليه لفتح حصن بابليون، وقيل، بل الذي اختطها مجلس استشاري شكله عمرو بن العاص بعضوية معاوية بن خديج التجيبي، وشريك بن سُمر الغطيفى، وعمرو بن قخزم الخولانى، وجبريل بن ناشرة المعافري بحسب ما أورد المؤرخ ابن دقماق في كتابه "الانتصار لواسطة عقد الأمصار".

كما وصف المقريزي في خططه الحال التي كانت عليها أرض الفسطاط قبل تشييد المدينة فقال: “اعلم أن موقع الفسطاط الذي يُقال له اليوم مدينة مصر كان فضاء ومزارع بين النيل والجبل الشرقي الذي يُعرف بجبل المقطم، ليس فيه من البناء والعملية سوى حصن يعرف بعضه اليوم بقصر الشمع والمعلقة".

زادت عمارة الفسطاط وبلغ امتدادها على ضفة النيل ثلاثة أميال، وأنها كانت تمثل عمارة بغداد عاصمة الدنيا في ذلك الزمان، كما ذكر الجغرافي ابن حوقل في "صورة الأرض". وتشكلت  من ١٢ خطة أو حي، توزعت تلك الأحياء لتكون سكنا للقبائل العربية فيما بين النيل في الغرب حتى عين الصيرة في الشرق، ومن جبل يشكر من الشمال حتى الشرق، وجبل الرصد المعروف بإصطبل عنتر، وهذه الخطط هي: خط أهل الراية، خط مُهرة، خط تجيب، خط لخم، خط اللفيف، خط أهل الظاهر، خط وعلان، خطط الفرس، خطط خولان، خطط المعافر، خطط الروم واليهود، خطط القبط، وبمرور الوقت تكامل بنيان الفسطاط حتى بلغت أوج الكمال في القرن العاشر الميلادي والرابع الهجري، وظلت حاضرة وبقوة على خارطة إنشاء المدن حتى في الوقت الذى سُحب منها لقب العاصمة لصالح مدينة العسكر التي تم تشييدها عام ١٣٣هـجرية من قبل العباسيين، ومدينة القطائع التي شيدها ابن طولون سنة ٢٥٦هـجرية، أو القاهرة عام ٣٥٨هـجرية.

 

وضمت الفسطاط دورا للشرطة لتوفير الأمن والانضباط، فضلا عن إنارتها بالفوانيس منذ عهد الخليفة العزيز بالله الفاطمي ونجله الحاكم بأمر اللهن وقبل ذلك بثلاثة قرون ضمت الفسطاط فرقا للإطفاء؛ للمساعدة في مكافحة الحرائق، وذلك منذ عهد الوالي عبد العزيز بن مروان الأموي (٦٥-٨٥هـجرية).

كما ساعد حفر قناة قديمة تسمى قناة تراجان تصل النيل بالبحر الأحمر على رواج حركة التجارة بالفسطاط، لكن عند مجيء الفتح الإسلامي لمصر كانت القناة قد رُدمت فأعاد عمرو ابن العاص حفرها، وسُميت باسم "خليج أمير المؤمنين"، لتجري فيه السفن محملة بالطعام والغلال إلى الحجاز، وبسبب موقعها على النيل أصبحت فيما بعد مركزا رئيسيا للتجارة البحرية الخارجية، وميناء للتجارة القادمة من "الصين والهند واليمن وأوروبا"، إلى جانب كونها المركز الرئيسي لحركة النقل المائي، وظل هذا الخليج المصري يؤدى دوره حتى عام ١٨٩٧/ ١٨٩٨م فرُدم الجزء الواقع من الخليج داخل القاهرة وحل محله شارع الخليج المصري الذى سُمى بشارع بورسعيد سنة ١٩٥٧م.

وصف ابن سعيد المغربي هذه الميناء التجارية المزدهرة في رحلته إلى مصر خلال العصر الأيوبي بقوله: "أما ما يرد الفسطاط من متاجر البحر الإسكندراني (المتوسط) والبحر الحجازي (الأحمر) فأنه يفوق ما يوصف، وبها مجمع ذلك لا بالقاهرة، ومنها تجهز إلى القاهرة وسائر البلاد".

ظلت الفسطاط مدينة زاهرة عامرة حتى تعرضت للخطر الصليبي، فحين أقبل ملك أورشليم أمالريك" عموري ملك مملكة بيت المقدس الصليبية لغزو مصر"، ووقف على الفسطاط سنة ٥٦٥هـجرية، فخشى الوزير الفاطمي شاور وزير الخليفة العاضد بالله من سقوط المدينة، فأمر بإضرام النيران في المدينة، ويصف المقريزي حادث إحراق المدينة، فيقول:" بعث شاور بعشرين ألف قارورة نفطن وعشرة آلاف مشعل نار، فُرقت فيها فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى السماء فصار منظرا مهولان واستمرت النار تأتى على مساكن مصر لتمام أربعة وخمسين يوما". وظلت الفسطاط عاصمة لمصر لمدة ١١٣ عامًا.

وتنقسم مدينة الفسطاط حاليا إلى قسمين، قسم شرقي مجاور لجبل المقطم، وهذا الذي وقع فيه الحريقين ولا يشتمل على أي بنيان سوى مسجد عمرو بن العاص وقصر الشمع، وانطلقت فيه حفائر علماء الآثار للتنقيب عن أطلال المدينة المحترقة، والقسم الغربي المجاور للنيل والذي يُعرف اليوم بمصر القديمة أو العتيقة.

حالياً تعرف هذه المنطقة باسم "حي مصر القديمة"، وهو من أعرق الأحياء بالقاهرة الكبري، ويضم العديد من المواقع الأثرية منها معبد بن عزرا اليهودي، وكنائس مصر القديمة، وجامع عمرو بن العاص، وحفائر أطلال مدينة الفسطاط، ومقياس النيل بجزيرة الروضة، وقصر المانسترلي، وقصر محمد على بالمنيل.

المصادر

كتاب "القاهرة: خططها وتطورها العمراني" للمؤرخ الدكتور أيمن فؤاد.

موقع وزارة السياحة والأثار المصرية.