رجال حول الرئيس عبدالناصر (١١).. وجيه أباظة المحافظ الجوكر

رجال حول الرئيس عبدالناصر (١١).. وجيه أباظة المحافظ الجوكر

ولد محمد وجيه توفيق أباظة في التاسع من سبتمبر عام ١٩١٧م، بقرية كفر أبو شحاتة مركز منيا القمح بمحافظة الشرقية. التحق بالكلية الحربية عام ١٩٣٧م، ثم التحق بمعهد الطيران العالي (كلية الطيران حاليا) وتخرج منها في مايو ١٩٣٩م.

شارك كطيار مقاتل في حرب فلسطين ١٩٤٨؛ وقام بإلقاء أول قنبلة على تل ابيب. وعقب إلغاء معاهدة ١٩٥١م، قاد حركة الفدائيين ضد قوات الاحتلال في منطقة القناة، وشارك في تأسيس تنظيم الضباط الأحرار.

وفي فجر يوم ثورة ٢٣ يوليو سيطر أباظة على سلاح الطيران بالكامل، وبعد أن استتب الأمر عمل أباظة في إدارة الشئون العامة بالقوات المسلحة كبديل لوزارات الإعلام والثقافة ومؤسسة الصحافة وابتكر وسائل عديدة وفريدة للإعلام عن الثورة.

عندما ‏أصدر‏ ‏الرئيس عبدالناصر‏ ‏قرارا‏ ‏بتعيين‏ ‏أول‏ ‏دفعة‏ ‏من‏ ‏المحافظين‏ والتي‏ شملت‏ ٢١ ‏محافظا‏؛ ‏تولي‏ ‏وجيه‏ ‏أباظة‏ ‏محافظة‏ ‏البحيرة‏ في‏ ‏سبتمبر‏ ١٩٦٠م، نجح أباظة في أن يجعل محافظة البحيرة في أيامها الأولى حديث الناس بل والعالم فكانت تجربة تنموية فريدة من نوعها في شتى المجالات؛ صناعيا، زراعيا، صحيا، فنيا، رياضيا، وعلى الأصعدة كافة، فأبهر الزعيم جمال عبد الناصر وجعلته يتخذ قرارا مهما بأن يكون وجيه أباظة هو المحافظ الجوكر الذي يتطلع اليه الكثيرون، ويتحدثون عنه همسا أو من وراء حجاب.

وفي رحلة البحث عن أسباب تميز السيد وجيه أباظة نجده كان  يصحو في السادسة صباحا، ثم تبدأ زيارته للمستشفيات و المدارس و مكاتب الزراعة و المهندسين و نقط الأمن، يتعرف على الإهمال شخصيا و يضع يده على العيوب، يؤمن بأن الموظف الحكومي المصري كفء لكنه يحتاج إلى الرقابة، يقيم كل أسبوع مؤتمرا مفتوحا يحضره هو شخصيا ليشرف على النقاش بين المسئولين و المواطنين، و يعتمد بنهاية المؤتمر القرارات التي تظهر بنهاية النقاش و تخدم المصلحة العامة، نهاية المؤتمر من وجهة نظر أباظة هي اللحظة التي لا يجد عندها المواطن ما يقوله.

يقول أباظة إن الاعتماد على الدولة ليس أفضل الحلول على الإطلاق، وزارة الشئون الاجتماعية سمحت لنا بإنشاء ساحتين شعبيتين فقط، وقدمت لنا منحة سنوية عشرة جنيهات، قررنا أن نحتفظ بها للذكرى، اعتمدنا على أنفسنا في إنشاء ١١ ساحة شعبية تحصل كل واحدة سنويا على ألفي جنيه، ثم أنشأنا استاد دمنهور، و قمنا في سبيل ذلك بانتزاع ملكية عشرة أفدنة مهجورة.

لم ننتظر تمويل صغار المقولين بأموال الدولة اللازمة للبناء التجمعات السكنية، وقمنا بتشكيل جمعية تعاونية من العاملين في المحافظة وضممنا إليها صغار المقاولين، ثم ضمنت الجمعية صغار المقاولين لدى البنوك ليحصلوا على القروض اللازمة لإنهاء عملهم، ونجحوا في ذلك.

لم يسمح أباظة لفكرة المال أن تكون معطلة، كان يبتكر حلولا يضمن بها بعض التمويل، بداية من تربية العجول وبيعها، في زيارة لمرسى مطروح اكتشف أن أكثر من ثلاثين ألف مصطاف في مطروح لا يأكلون سوى لحوم الماعز والضأن ولا وجود للعجول هناك، فكانت جمعية تنمية الثروة الحيوانية، وكانت صفقات بيع العجول، ونشرت جريدة الأهرام عن أول صفقة تشتريها محافظة مطروح بمبلغ ١٦٨٦ جنيها ثمن ٢٤ عجلا.

كانت تمر بدمنهور ترعة الخندق و لم تعد مفيدة فجاء قرار الدولة بردمها و رصدت لذلك أكثر من تسعين ألف جنيها، وضعها أباظة في خزينة المحافظة، و استغنى عن شركة المقاولات و قام بعمل تعبئة عامة بين كل شباب البحيرة لردم الترعة، و جمع تبرعات عبارة عن مجهود و عربات نقل و أدوات ردم و تراب، ثم أنفق جزءا من المبلغ في إعادة تشجير المكان وتحويله إلى حديقة فواكه و جزء منه إلى كازينو، فدبر تمويلا لعمل المحافظة من جهة و خلق مشروعين يقدمان ربحا معقولا في الوقت نفسه. فتش أباظة أثناء عمله عما يميز أهل البحيرة فلمس مهارتهم في عمل السجاد المغزول يوميا، فحشد كل الطاقات الممكنة لإقامة مصنع سجاد دمنهور وهو الأبرز كما و كيفا في خريطة إنتاج السجاد في مصر، و لم يغب عنه طول الوقت أن يحسن مزاج و ثقافة أهل البحيرة فكانت المدارس تعمل صيفا بكامل طاقتها كفصول لمحو الأمية، وشهدت الساحات الشعبية جلسات استماع للقرآن و الموسيقى، ودعم مستشفى دمنهور بكل طاقته لدرجة أنه أرغم وزير الصحة النبوي المهندس و كان طبيب أطفال على زيارة المستشفى مرة اسبوعيا ليكشف على المرضى و يرفع معنويات الأطباء، وقد كان مستشفى دمنهور مزارا للوفود الأجنبية.

أثناء حركة أباظة الدؤوبة ليل نهار في شوارع البحيرة لاحظ وجود عدد كبير من المتسولين و المشردين، لم يتعامل مع الأمر بمنطق أمنى يقوم على مطاردتهم، أو برؤية اجتماعية تقوم بتوفير الدعم، لكنه فعل كل ذلك و أضاف إليه الفن بأن كون من هؤلاء الأشخاص فرقة دمنهور للفنون الشعبية، حول النشالين و المتسولين و قطاع الطرق بالوقت والتدريب لفرقة فنون جابت معظم دول العالم و كانت حديث المصريين و هي الفرقة الوحيدة التي التقط معها عبد الناصر صورا تذكارية لأنها كونت من الطبقة الشعبية، و كثر الكلام (من تحت لتحت) وقتها عن كيف قبل ناصر أن يلتقط صورا مع المتسولين و النشالين، لكن الصور جلبت مزيدا من الدعم لفكرة أباظة و حولتها إلى أحد معالم البحيرة، وقدمت عروضها على دار الأوبرا المصرية و تولى تدريبها خبراء مصريون درسوا الفنون الشعبية في روسيا.

 

لم يكن أباظة يقضى الوقت في انتظار المكاتبات التي يهرسها قطار الروتين، هناك موظف يستخدم الديزل مخصص لتخليص المكاتبات في القاهرة والعودة بها في اليوم نفسه، كان هذا هو إيقاع العمل عند أباظة فأنشأ الاستاد الكبير في ٨٠ يوما، وأصبحت خريطة عمله ابنة المحافظة وأهاليها وليست ابنة للدولة.

وفي يوم الأربعاء الموافق الخامس عشر من يونيو عام ١٩٦٦م، استقبل وجيه أباظة، محافظ البحيرة، الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهو يخطو أولى خطواته على أرض محطة قطار دمنهور، قادمًا من القاهرة عبر خطوط السكك الحديدية، ليبدأ زيارته التاريخية الثانية لمدينة دمنهور.

تجملت دمنهور وتزينت وبدت في أبهى صورها بأعلام الجمهورية العربية المتحدة، وبصور الزعيم عبد الناصر، وقد أقيمت أقواس النصر ورفعت لافتات الترحيب وامتلأت الشرفات واحتشد الآلاف من أبناء مدينة دمنهور ومحافظة البحيرة والمحافظات المجاورة، ليكونوا في استقبال زعيم الأمة والترحيب به، وتجمع المواطنين على طول خط سير الموكب الرئاسي.

وكان يرافق الرئيس في تلك الزيارة التاريخية، العديد من القيادات السياسية والتنفيذية بالدولة، بينهم المشير عبد الحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة، وأنور السادات رئيس مجلس الأمة،  وحسين الشافعي، وزكريا محيي الدين، وعلي صبري، وكمال الدين رفعت، والمهندس سيد مرعي، وزير الزراعة، والدكتور مصطفي خليل، وزير المواصلات، والدكتور كمال رمزي إستينو، وزير التموين.

وفي هذه الزيارة قام الرئيس ناصر بزيارة مركز التدريب المهني بأقسامه المختلفة، كما شاهد عرضا لفرقة البحيرة للفنون الشعبية، وكذلك تفقد مصانع الشركة العربية للسجاد والمفروشات "شركة سجاد دمنهور" والتي كانت تعد إحدى قلاع صناعة السجاد في الشرق الأوسط، كما زار مركز خدمة أبو الريش بحي أبو الريش بوسط مدينة دمنهور، حيث اطلع على ما يقدمه المركز من خدمات لأبناء الحي.

وفي ختام زيارته مساء ذلك اليوم، ألقى خطابًا سياسيًا بإستاد دمنهور الرياضي، حضره الآلاف من أبناء المدينة وأبناء مراكز محافظة البحيرة، وممثلي الفلاحين، والنقابات العمالية، والمهنية.

وبعد هذه الزيارة لمس ناصر نجاح أباظة فطلب منه أن ينتقل للعمل كمحافظ لأسوان لأنها تشهد مشروعا بأهمية السد العالي، فطلب أباظة مهلة لينهى بعض العمل في البحيرة خوفا من أن يأتي زميل جديد فتفشل تجربته، و لكن أهل البحيرة لم يمهلوا ناصر و خرجت وفود تضم شعب البحيرة و القيادات و جلست أمام القصر الجمهوري تطالب ناصر بالعدول عن قراره ففعل و بقى أباظة في البحيرة أكثر من ٨ سنوات رفض خلالها الوزارة أكثر من مرة، لكن بعد هذه الفترة و بعد أن أطمئن للوضع في البحيرة قبل اختياره كمحافظ للعاصمة، وفى أول زيارة لدمنهور بعدها لتقديم واجب العزاء حملت الناس سيارته من مدخل المدينة حتى مقر العزاء.

وفي أكثر من مناسبة كان أباظة يعترف بالعلاقة الخاصة مع شعب البحيرة كما كان يسميها وكان البحاروة يعلنون ذلك بفخر، ولعل هذه الروح الأباظية هي التي جعلته يتفوق على اقرانه من المحافظين الذين تولوا المسئولية معه ونقلت شهادات لعدد منهم انهم حاولوا اللحاق بأباظة فلم يستطيعوا وبعضهم قال أنه كانوا يزورونه في دمنهور ليتعلموا منه.

 نجح أباظة في خلق معادلة مهمة جدا بينه وبين جماهير البحيرة كانت هناك حالة من التناغم والتفاني من اجل المصلحة العامة كان يسبق الناس الى كل مشروع وينزل الى الشارع بنفسه يتابع كل الأحداث والحوادث ولا يهدأ حتى تحل المشكلات لذلك لم يكن غريبا ما سجله الاستاذ عبد الله كمال "كانت محافظة البحيرة بقيادة المحافظ الثائر وجيه اباظة هي موضع اهتمام الصحف والكتاب لأنهم رأوا فيها نبضا جديدا من الانجاز وطريقة مختلفة في العمل ولأنه كان يقوم بأعمال من المستحيل ان يقوم بها غيره.

أخذ أباظة تكليفا مباشرا من عبد الناصر أن ينقل التجربة الى الغربية ثم الى القاهرة على الترتيب. وعده عبد الناصر أنه لن يمكث في الغربية أكثر من عامين وفعل فيها الافاعيل ونقلها نقلة حضارية لا تزال معالمها حتى الآن تحمل بصمات وتوقيع أباظة ومع اليوم الأخير للعامين بالتمام والكمال فوجئ أباظة بقرار نقله الى محافظا للقاهرة.

وينقل هيكل عن عبد الناصر وإيمانه بمقدرة وجيه أباظة على خوض اي تجربة قوله " إن وجيه يعيش كل مهمة يؤديها وكل مهمة يؤديها تعيش فيه "ويضيف عبد الناصر “وهو أيضا ليس واحدا من هواة المشاكل وفي كل بحر ألقيته فيه وصل الى الشاطئ وانتظرني هناك بلا شكوى وبلا خطب".

 استمر أباظة محافظا للقاهرة لسنة كان أقل ما قدمه خلالها قرارا يلزم كل شقة بتركيب عداد مياه، و تأسيس شبكة الصرف الصحي للمدينة، و ترميم و تجديد مساجد القاهرة الأثرية مثل مسجد عمرو بن العاص، وفتح باب التراخيص للمدارس الخاصة، و تعديل قوانين الإسكان لحل أزمة الشقق، و مع نهاية العام أطلقت عليه الصحف لقب ( المحافظ حامل العصا السحرية)، و مع بداية العام الجديد وجد نفسه في السجن متهما بمحاولة الانقلاب على السادات، ذلك لأن أحد كبار المتهمين أثناء ثورة التصحيح زار أباظة في منزله و طلب منه قرضا بعد أن ساءت حياة أسرته فقدم له أباظة كل ما كان يحتفظ به وقتها و كان مبلغ ١٥٠ جنيها عبارة عن مهر ابنة أباظة، و تم اعتبار هذا المبلغ كافيا لقلب نظام الحكم في مصر فتم حبسه و أفرج عنه بعد خمس سنوات من مستشفى السجن.

وبعد خروجه اعتزل أباظة العمل السياسي وتفرغ للتجارة؛ وأصبح صاحب توكيل أحد أشهر أنواع السيارات الأوروبية.

توفي السيد المحافظ وجيه أباظة عام ١٩٤٤م، تاركا نموذجا رشيدا يُقتدى به في تول المسؤولية.

 

المصادر

كتاب صنايعية مصر لعمر طاهر.

مقال صحفي تحت عنوان: "البحث عن المحافظ الجوكر.."وجيه"و"اباظة" !!"، بقلم الأستاذ مجاهد خلف، جريدة الجمهورية.

خبر صحفي تحت عنوان: "جمال عبد الناصر يصافح وجيه أباظة.. قصة صورة عمرها ٥٥ عاما"، جريدة الوطن.