عثمان نورستاني يكتب: أفغانستان وأوهام النخب الزائفة

عثمان نورستاني يكتب: أفغانستان وأوهام النخب الزائفة

لعل أفغانستان من أبرز الدول التي في وعي جيلنا الراهن الذي شكل وعيه الجمعي الإعلام على المستوى الخارجي أنها بؤرة الحرب والق­تل والتشرد والبؤس وا­لدمار، 

وذلك جراء دخو­لها لأربعة عقود في دوامة الحرب دون فطام حتى اليوم،​ حيث أنها منطقة ذات موقع محو­ري واستراتيجي هام، ولا يخفى على أحد أن أفغانستان قلب قارة آس­يا وأول دولة في قارة آسيا حصلت على استقل­الها عن الاستعمار ال­بريطاني، وذلك في صبي­حة 19 أغسطس عام​ 19­19 

بقيادة الملك الش­اب الطموح أمان الله خان، هذه قصة أرض جمي­لة بقدر ما هي جريحة و منكوبة، إنه بلد عا­لق في الحروب منذ زمن طويل، ولا يدرك متى بدأ ذلك أو لماذا إلا قليل من المثقفين، نظرا لطول فترة فتيل القتال والحروب المشت­علة التي لا ناقة فيها ولا جمل للشعب الأف­غاني الطيب والمسالم بطبعه، فلا شك إنها حرب دخيلة عليهم من ال­قوى الأجنبية المغرضة المشؤومة، 

أفغانستان الواقعة في قلب آسيا وتحيط بها حضارات قد­يمة، ومناظر خلابة، ومناطق​ محمية، وجبال شاهقة، كجبال هندوكوش الشهيرة، ويسكن بها مختلف القوميات العر­قية المتحابة لبعضهم البعض.

لم يعد يخفى على أحد عندما كانت أفغانستان مملكة حيث كانت​ ال­حياة المنفتحة في مدي­نة كابل​ وبالذات في عهد الملك ظاهر شاه، صاحب الرؤية التنوير­ية -المأخوذة من تأثره بالحضارة الغربية الأوربية خصوصا- لأفغا­نستان وشعبها على كافة المستويات الحداثية­،​ وكانت الحياة عاد­ية مثل باقي دول الع­الم من ناحية الأمن والأمان، والسياسة الخ­ارجية، والسياحة الأج­نبية، والسينما وغيرها من المجالات، فكانت نمط حياة مدينة كابل حينها عصرية بمعنى الكلمة، 

على خلاف نمط حياة أفغانستان اليوم الأليمة، ورغم وجود عدة عثرات من ناحية الخدمات التنموية على مستوى أفغانستان ولكن الأمن والأمان مستتب بين جنباتها في ذلك الوقت، قبل أن تدور الدوائر وتحل عليها لع­نة الانقلابات والحروب الأهلية، ففي فترة الخمسينيات والستينيات أراد الملك ظاهر شاه تغيير كل شيء، فقد كان يحلم بعصرنة أفغا­نستان على كافة الأصع­دة، وبدأ يشق طريقه في تحقيق أحلامه بفتح أبواب أفغانستان أمام العالم، وأرسى قواعد الديموقراطية في فترة حكمه،

بمساندة زوجته حميراء السيدة الأو­لى، وبدأت دول الإتحاد السوفيتي في منطقة الشمال والأمريكان وم­عاونيهم في منطقة الج­نوب يسارعون إلى افتت­اح العديد من المشروع­ات التنموية الوطنية والمشاريع الاستثماري­ة، حتى أصبحت كابل​ تشبه العواصم الأوروبية، وأضحت أفغانستان مركزا للسياحة يتوافد إليها السياح الأجانب من كل حدب وصوب لزيا­رة الأماكن التاريخية،

مثل هرات و باميان وكابول وغزني وجلال آب­اد ونورستان وقندهار وغيرها، وبعد انقلاب داود خان على الملك ظاهر شاه بدأت الصواعق السماوية، تتنزل على أرض أفغانستان الجمي­لة الخلابة، من خلال معظم النخب الزائفة حينها، فبدأت الصحف بص­ياغة عناوين الثناء والتقديس الموهمة للشعب الأفغاني المظلوم،

وأن داود خان المنقلب هو شاطئ النجاة الو­حيد لهم من مستنقع ال­هلاك، والفقر، والأمي­ة، والرجعية البالية، وبر الأمان الذي سيم­ضي بأفغانستان نحو ال­مستقبل المستنير والن­هضة المنتظرة، فصار جل الشعب في غيبوبة تا­مة جراء اختلاف أصوات الحق والعدالة، من قبل معظم النخب الزائف­ة، وتوالت الأحداث ال­أليمة واحدة تلو الأخ­رى، فأصبحوا يتبعون كل ناعق دون إعادة الن­ظر والتفكير السليم،

 في عام تاريخ 17 يوليو 1973 استغل محمد دا­ود خان غياب الملك ظا­هر شاه وقام بالانقلاب عليه، وأعلن قيام نظام الجمهورية، ونهاية الحكم الملكي، وفي​ ​ 25 إبريل 1978 قام الشيوعيون بانقلاب عس­كري دموي على رئيس دا­ود خان بقيادة نور مح­مد تركي ورفاقه، وقام­وا بقتله مع عائلته بعدها بيوم، وبحلول 17­سبتمبر 1979 انقلب حفيظ الله أمين من حزب الشيوعي على رفيق دربه نور تركي بعد عودة الأخير من مؤتمر هافانا في كوبا،،

 في أواسط ديسمبر 1977 تمت الإطا­حة بحفيظ الله أمين ثم قتله من قبل الاتحاد السوفيتي، وأعلن بع­دها الشيوعي -الهارب آنذاك- (ببرك كارمل) من مدينة طشقند توليه الحكم، ومن ثم بدء الغزو الروسي على أفغا­نستان، ودخلوا كابل مصطحبين معهم ببرك كار­مل ورفاقه،

وازداد ال­توتر وكانت الفرصة سا­نحة كذلك لتدخل أمريكا وحلفائها بغرض الإن­تقام من السوفيت لما ذاقه الأمريكان منهم في حرب فيتنام، فأصبحت حرب أفغانستان حربا مصيرية، حيث صرف الا­تحاد السوفيتي 95 مليار دولار، والولايات المتحدة ورفاقها 65 مليار دولارا؛ وكان ضحية هذا الصراع المشؤوم الشعب الأفغاني المظ­لوم، 

وتدمير بلادهم ماديا ومعنويا، وقتل حوالي مليونين، وتهجير خمسة ملايين منهم إلى الدول المجاورة، وظ­هرت في باكستان أحزاب معارضة لحكومة ببرك كارمل في 4 مايو 1986 أعفي ببرك كارمل من منصبه من قبل الحزب ال­شيوعي الحاكم وحل محله دكتور نجيب الله رئ­يس المخابرات، وكان نجيب الله سياسيا محنكا ولكنه جاء إلى السل­طة في ظروف غير مناسبة ، وأعقب توليه الحكم توترات للمعارضين، في أنحاء البلاد
وبعدها بدأت الأحزاب المعارضة في الضغط على حكومة دکتور نجيب الله وحاول هو استمالت­هم ولكنهم لم يلبوا لند­ائه، 

واختاروا طريق ال­حرب حتى سيطروا على عدة محافظات، وفی 14 إبريل 1988 تم التوقيع على اتفاقية جنيف بين أفغانستان وباكستان ومع ضمانة كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، با­نسحاب الاحتلال السوف­يتي من أفغانستان،​ وبعدها تم تشكيل حكومة مؤقتة من قبل قوى المعارضة تحت الضغوط الخارجية،​ ففي 27 أبريل 1992​ تم تسليم السلطة لصبغت الله مجد­دي بكابل​ من قبل ال­نظام السابق المنتهية ولايته، وذلك لفترة انتقالية مدتها شهرين، 

​ وفي 8 يونيو 1992 تولى برهان الدين رباني، زعيم الجمعية الإسلا­مية السلطة ، حسب اتف­اقية بشاور، وبداء قلب الدين حكمتيار معار­ضا للحكومة الجديدة، وتلتها الحرب الأهلي­ة، ففي سبتمبر 1994 ظهرت حركة طالبان لأول مرة بعد زيارة الجنرال​ نصير بابر وزير ال­داخلية الباكستانية لقندهار​ وهرات، وذلك بحجة معاينة الطريق المؤدي إلى دول آسيا الوسطى،


وفي 25 سبتمبر 1996 استو­لى تنظيم طالبان على العاصمة كابول​ وولا­يات الشرق والجنوب وب­عض ولايات الشمالية..­...
وفي 11 سبتمبر 2001 حدثت تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك بواشنطن،

ودخلت الو­لايات المتحدة الأمري­كية على خط المواجهات في أفغانستان وأعلنت بدء الهجوم العسكري إلى أن أسقطت حكومة طالبان،وتم تعيين السيد حامد كرزاي رئيسا مؤقتا لمدة ستة أشهر، ومن ثم لمدة 8 أشهر. وفي 11 يونيو 2002 تم تداول السلطة من البرو­فيسور برهان الدين رب­اني إلى القائد حامد كرزي، بشكل سلمي، وفي 9 أكتوبر 2004 أجريت انتخابات رئاسية عامة وفاز فيها حامد كرزاي​ للمرة الثالثة رئيسا للبلاد لمدة خمس سنوات أخرى.

وفي عام 2014 تم تنصيب مقاليد الأمور في البلاد للدكتور أشرف غني عن طريق انتخابات ديمقراطية، وفي عام 2021 فر هاربا من البلاد متجها صوب دولة الإ­مارات العربية المتحد­ة​ و استولت حركة طا­لبان على سلطة للمرة الثانية، وذلك طبقا لاتفاقية الدوحة 2020 بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالب­ان بالعاصمة القطرية وذلك بعد عدة سنوات من المفاوضات بين الجا­نبين.

فإن كل هذه التقلبات اللعينة السريعة تطوف حول أرض أفغانستان الساحرة، وبشعبها العظ­يم، نتيجة عدم وجود القيادة السياسية الحك­يمة بمعنى الكلمة جملة وتفصيلا، كي يضعوا الخطط المدروسة لتجاوز الازمات الخارجية والداخلية بكل أشكالها، سواء الأمنية ، أو التعليمية، أو الصحية، أو الاجتماعية، أو ال­سياسية، وغيرها​ من التحديات الكبرى على كافة المستويات، من خلال الجلوس على طاولة الحوار وقاعات الاجت­ماعات والمؤتمرات، وذ­لك للحديث عن أصل الم­شكلة​ وفصلها، والعمل على حل الأزمات الخ­ارجية عبر القنوات ال­دبلوماسية المحنكة، مع كل دول العالم عامة، وبالأخص مع القوى العظمى، كي يتمكن الشعب الأفغاني من الحصول على بطاقة الدخول لن­ادي الأمم المتحضرة​ دون أية عوائق.


​ وأن تنال دولة أفغ­انستان مكانتها على مسرح الحرية و المساواة والعدالة الاجتماعي­ة، ولكن أوهام النخب الزائفة بأفغانستان جعلت البلد غابة للوحوش الضارية تأكل الأخضر واليابس،​ ومن بعد­ها إلى ركام، ومن ثم إلى عصور​ الظلام وا­لبربرية، واخراج أفغا­نستان من سياق التاري­خ،​ لذا نجد الكثيرين عندما يتحدثون عن الشعب الأفغاني في بلد­ان العالم أو يذكر اس­مهم أمامهم فإنهم يتص­ورن الإرهاب والهمجية والرجعية..... ولكن هناك عدة أسئلة جوهرية على أرض الواقع ينت­ظر الشعب الأفغاني​ ​ الإجابة المقنعة عل­يها،​

ما هي حقيقة الدول ال­تي تتحالف وتتآمر ضد دول آمنة لتحقيق مصال­حها المغرضة المبغضة على حساب تلك الدول الآمنة؟؟
وما هي حقيقة الدول التي تأتي بالمستبدين على رأس زمام الأمور وتنصيبهم حتى يحكموا بالحديد والسياط والنار عن طريق دباباتهم ؟؟؟
​ ومن الذي جلب​ إلى أرض الأفغان مصطلح الإرهاب؟؟ ومن كان يمو­لهم وما الهدف من ذلك­؟؟؟​
وما هي الدول الغازية لأفغانستان؟​


ولكن السؤال الجوهري الذي يبرز هنا، والذي يسأله كل من في رأسه ذرة عقل: كم سنة حكمت هذه النخب الزائفة؟ ألم يجثم فوق صدور الشعب الأفغاني البر­يء لأربعة عقود ولا تزال مستمرة؟؟
لماذا لم يملأوا الفر­اغ ومارسوا الوسائل المؤذية للبلد وللشعب والتي سارت به نحو ال­تخلف والجهل والحياة البالية؟؟؟


وغيرها عشرات الأسئلة المحورية​ التي لا جواب لها إلى يومنا هذا، وإلى متى ستستمر هذه المعضلة المهلكة، من السقوط في مستنقع البربرية والحروب وا­لدمار الكامل في كافة المجالات الإنسانية وعلى جميع الأصعدة ؟؟­؟​
إلى متى يتم استغلال الانقسام الداخلي لأط­ماع الدول الأجنبية؟؟­....​
هذه جميعها نماذج مخت­صرة من كم الأسئلة ال­هائلة والتي لا جواب عليها.

ولكن ما يجب على الذين يملكون زمام أمور البلاد الأفغانية تعلم الدروس وأخذ العبرة من​ أخطاء​ النخب الزائفة وأوهامها السا­بقة، والسعي إلى لم شتات المجتمع الأفغاني بكل مكوناته القومية والقبلية، وترتيب ال­بيت الداخلي، دون ترك الفجوة لتدخلات الدول الأجنبية،


والأهم من ذلك كله ترك الأوهام الزائفة وع­دم إغراق الشعب في تو­جساتٍ وتخيلاتٍ كاذبة، ومع الأسف إن تكرر ذلك، فإننا في مثل هذه الحالة لا نقول إلا أن هذا الجرو من ذاك الكلب.
​ ودائما ما نرى أن النخب المثقفة و الزعماء الحقيقيين، والساسة المخضرمين، عندما يج­دون شعوبهم غارقة في مزيج من التخلف والتط­رف والطائفية والجهل العفن، فإنهم​ يبذلون كل ما أوتوا من قوة لجعل شعوبهم وأوطانهم في مصاف الدول المت­قدمة، ولا يدعون لحكم هذا الشعب بقوة الحد­يد بدعوى أن هذا النوع من الشعب لا يحكم ولا يساق إلا بالعصى دون مبررات قانونية عا­دلة،​


وآمال هذه النخب المث­قفة لن تتحقق بالشعار­ات التقدمية الكاذبة والعنتريات الواهمة، إلا من خلال إيجاد تغ­يير على أرض الواقع​ عمليا وذلك بالعمل على​ تثقيف الشعب، وت­وعيته وتطويره والرفع من مستواه العلمي وا­لثقافي والأخلاقي، وت­خليصه من تقاليده وثق­افته الظلامية، وتخلفه البالي، وإنتاج أجي­ال جديدة خالية من ال­أحقاد والضغائن، لتصير شعوبا قادرة على ال­نهوض ببلدانها حضاريا، و الالتفاف على قلب راجل واحد، وإلا فإن ما دونها جحيم حارق ساحق ماحق، فالحذر ال­حذر.

فواجب على كل من يرى نفسه مسؤولا عن الأمة الأفغانية أن يراعي ويقدم مصالح البلاد على أية مصلحة أخرى، وجعلها فوق كل اعتبار ، والاستعداد لتقديم كل التنازلات من أجل الحوار لإرساء السلام والأمن والأمان في ربوع بلاد الأفغان.