العراب يكتب: بين الدين والتغريب .. حرب هدفها التأثير!

العراب يكتب: بين الدين والتغريب .. حرب هدفها التأثير!


عانينا عقود طويلة من الاحتلال المباشر نتيجة ضعف الحكومات والأنظمة وإضعاف الجيوش عمداً، لكن كان هناك جيش آخر يخرج من رحم المعاناة و ويلات الاحتلال وغطرسته، جيش تحركه دوافع ذو طبيعة مختلفة تماما، تحركه الهوية الخالصة ورصيد الانتماء الذي لا يتبدد،
وقد رصد الأعداء هذا الأمر بكل دقة، ودرسوا هذه الشخصية المتفردة، وإذا تعمقنا أكثر في هذا الأمر سنجد أن المقاومة تخرج من مجموعة مبادئ أساسية ولذلك قرروا أن يبدأوا حروب من نوع جديد،  تكلفتها أقل من تكلفة الأنواع التقليدية للحرب، سواء في السلاح أو العنصر البشري.

حرب التشكيك؛
الشك هو الباب الأول والطريق الواسع نحو كسر الإرادة وتمزيق الهوية الذاتية، وهو ضمن أهم اسلحة العصر الحديث، كسر الرابط التلقائي الذي يربط بين الإنسان المتصل بذاته ومنها إلى شخصيته .. هويته وتاريخه، والذي يفرز عن مقاومة طبيعية لكل ما هو مخالف للطبيعة العامة لهذه الثقافة، توجيه الإنسان نحو حرب مع نفسه وذاته التي يستمد قوته منها فينتهي به المطاف إلى النسيان والتخلي عن عمد عن كل ما يستمد منه قوته الحقيقية، كونه يشعر بأنه يسير بحمل ثقيل لا يطيق به صبراً، ولو أنه أدرك للحظة بأنه مصدر طاقة لا ينفذ ابداً لاستمد منها ما يلزم وأكثر ويحلق بعيداً في أفق الحضارات والانجازات العظيمة ويسطر اسمه في سجل واسع وعظيم من الحضارات التي كان لها تأثير مباشر في استمرار عجلة الحضارة في الدوران إلى الأمام.

ومن هنا يكون المدخل الرئيسي لنوع آخر من الحروب، وهو بث ثقافة دخيلة على المدخلات الأساسية للفرد عن طريق الدراما والفن بشكل رئيسي، حتى نقع في الفخ التي وقعت فيه بعض الدول ومثال حي أمامنا هو الأتراك، التي كانت لها رمزها وطبيعتها الخاصة وان كانت تحمل الطابع الاستعماري، لكنها قد دخلت عليها الثقافة الغربية عنوة نتيجة انقلاب سياسي بقيادة مصطفى كمال أتاتورك في التاسع عشر من مايو عام ١٨٨١، خلع الطربوش وارتدى البرنيطة بعد ذلك اعلنها علمانية، وحتى الآن يصف علماء الاجتماع المجتمع التركي بأنه منقسم إلى فريقين، على ضفتي جسر البوسفور يأبى كل فريق العبور إلى الآخر.. في تمزق واضع في الشخصية التركية، التي حاولت الأنظمة فترة طويلة التقريب بينهما عبر الدراما والثقافة والأدب، ولكنها لا محالة، درب من المُحال!

وعند الإسقاط والعودة إلى المجتمع المصري تحديدا فسنجد أنه مختلف عن كل الرموز والنماذج الأخرى، فهو ليس بكتلتين من الحديد إذا اصطدما ببعض الفيصل فيها لقوانين الفيزياء حيث يحدد الفائز الأقوى!!
بل هو نسيج مترابط في قوة فولاذية مذهلة .. قادر على احتواء أي كتل صلبة تحاول الاصطدام به، وتحوله إلى رمزية ذات خصوصية فريدة تُضيف إلى المجموع ولا تخرج منها إلا وقد استقلت القطار نحو ثقافة جديدة تحمل الطابع المصري،  ولا تحمل الثقافة الأم...
ومن هنا يكون التحدي ومن هذا المكان تأتي عمق السببية في حياكة المؤامرات على هذه البلاد ومحاولة اختطافها من شخصيتها الفريدة القادرة على تحمل الصعاب، فيكون لزاماً عليها للنهوض من قبل الآخرين وخروجها من المنافسة المحسومة لها، أن تكون نصف متصلة بهويتها وذاكرتها الوطنية، ليكون الإنسان المصري الذي أبدع وعلم أهل الأرض كيف تكون الحياة بحضارة تعيش، ونعيش على ذكراها حتى الآن، إنسان غير مدرك ولا واعٍ.

لنخرج من فخ الثقافة و الركن النفسي والعقلي، إلى الركن الروحي والديني يصدروا لنا يوميا بأن الأديان عاجزة عن إدارة الفوضى، وإيقاف نزيف الدماء الجاري على سطح الكوكب، ولكننا بتفكير متصل وليس منفصل سنجد أن مُصدر الفكرة بالأساس هو صاحب الحرب والمستفيد الأوحد منها لتأمين أطماعه، فكيف أسير على خطى استعمارية عنصرية لأبعد الحدود!!

وقد يرى البعض أن أوروبا قد انطلقت فور تحريرها من أغلال الأديان وهنا لنا وقفة، نعم قد انطلقت بنفس الفكر الاستعماري ولكن الدين في أوروبا لم يكن يوما كمثل الدين في الشرق وخاصة مصر، لم يكن العرب في ذلك الوقت إلا صناع حضارة عظيمة قامت على أركان الدين وصلت من طنجة إلى جاكرتا ومن غانا إلى فرغانة، هذا هو دين وتجربة إنسانية تستحق الدراسة في مقابل التجربة الغربية للدين!

إن ما أود توضيحه هو أن محاكم التفتيش بكل عنصريتها واستخدامها للدين للسيطرة على الغرب وإطلاق الفساد بإسم الدين كان توجيهاً كافياً للتعامل مع الدين بكراهة والتوجه إلى النظام العالمي الجديد في ذلك الوقت نحو اللادينية، وهذا بالنسبة لهم قد يكون مقبولاً، ولكن ما هو غير مقبول هو ربط الحداثة والتغريب، ربط التطور بالتبعية، حيث أن يكون كل من يتبع النظام الغربي متطور حتى ولو كان فاسداً، وربط ما دون ذلك بالتخلف والجهل!!

لذا وفي هذا السياق لماذا نتحمل نحن أصحاب الحضارات الراقية العظيمة المؤثرة، نتيجة خلل اجتماعي ظهر وتفشى في عقود طويلة من الزمن في أوروبا؟
لماذا نتحمل نتيجة جهلهم بالدين، وعدم قدرتهم على تطهير واقعهم من الفاسدين الذين اتخذوا من الدين ساتراً لتمرير مخالفتهم!

وعلينا ألا نكون في خوض مختل نسير في دائرة مفرغة حول قضية محسومة، لا نأخذ منها ولا من بينها ولا حولها إلا الفتنة، نعم قضية الدين هي قضية محسومة من قديم الأزل،
الأديان السماوية تخرج جميعها من سراج واحد، والله تعالى قد حسم هذا الاختلاف بأنه سبحانه وحده من يملك الحكم، وسيحكم بيننا في النهاية فيما نحن فيه مختلفون، الأمر أبسط من تعقيدات العقول الواهية .. الحكم لله الواحد.

ولا يبقى بيننا إلا الإنسانيّة والمودة والخير والتراحم بين الناس، فإن اهتمامك بمعاملتك في دينك أهم من اهتمامك بتنفيذ حلم تحول الناس كلها إلى نسخ مكررة منك في دينك وبالقوة!!

نعم هي قد تكون في ظاهرها صراع أو صدام الحضارات ولكن في باطنها هو إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد!
نظام أكثر عنصرية من كل ما سبق في التاريخ نظام بقسوة لم يعتادها بنو الإنسان، نظام قائم على تهذيب رقيق وسطحي لشكل من أشكال الفوضى العارمة التي يتخللها الجحيم، حيث يكون البقاء للأقوى ولكن يملك المال والبقية يكونوا مجرد عبيد تقتصر مهمتهم في خدمة الأقوياء، وهو ما ترفضه كل الأديان لذلك يحاربونها كي تظهر في مظهر العاجز على مسرح الدنيا، كي يأتي علينا من يخرج بدين جديد يملك مفاتيح وقف القتال .. مستعد لإنهاء كافة الخلافات، دين يصنع وهماً من جحيم البشرية جنة تسر الناظرين، وكل هذا لكي يهرول إليه الجميع، ظناً بأنها الملاذ والأمان، ولكنها عمق الجحيم، جحيم الإباحة والاستباحة، جحيم اختلاط الأنساب وقتل الإنسان لأخيه الإنسان، دين يصنع من الأحرار عبيد نحو جنة الوهم بزيف وضلال.
لكن الله متم نوره ولو كره الناس أجمعين، وهو وعد وعلى الناس أن تتمسك بهويتها وايمانها فأنا على يقين أن فيهم الخلاص، فإن الشرق ومصر تحديدا منذ عمق التاريخ فيه من الإيمان ما يكفي أهل الأرض أجمعين، واعلموا أنكم حجر الزاوية، ورفع راية الأمة أو تنكيسها، ما هو الا قرار بين يديكم تاخذونه بمنتهى الضمير الحر، ولكي يكون صحيحا لابد أن تبتعدوا عن عوامل التشويش والوجه بقلب سليم، وإلى الرب، الله الواحد تُرجع كل الأمور، ويحكم بيننا فيما كنا فيه مختلفين.