بين الأمس واليوم: مصر بين قيادة عبد الناصر وزمن التحولات الراهنة

بين الأمس واليوم: مصر بين قيادة عبد الناصر وزمن التحولات الراهنة

بقلم: محمد إسماعيل 

تعيش المنطقة العربية اليوم مرحلة جديدة من التحولات السياسية والدبلوماسية، تتقاطع فيها المصالح الدولية، وتتشابك فيها الملفات الإقليمية الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية والعلاقات المصرية-الأمريكية.
زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى مصر في أكتوبر 2025، في ظل حرب غزة ومساعي القاهرة لإطلاق مبادرة سلام جديدة، أعادت إلى الأذهان لحظات تاريخية مشابهة من حقبة الرئيس جمال عبد الناصر، حين كانت القاهرة قبلة العالم الثالث ومركز القرار العربي. في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان عبد الناصر رمزًا لقيادة عربية موحَّدة تسعى لبناء نظام دولي أكثر عدلاً من خلال حركة عدم الانحياز ومؤتمر باندونغ عام 1955، الذي رفع شعار “الاستقلال والكرامة والسيادة”. كانت مصر آنذاك تمارس دبلوماسية ذات بُعد إنساني وأخلاقي، لا تخضع لابتزاز القوى الكبرى، بل تسعى إلى إقامة توازن حقيقي بين الشرق والغرب.

 أما اليوم، فالقاهرة تستعيد شيئًا من هذا الدور، حين استضافت في أكتوبر 2025 قمة شرم الشيخ للسلام بمشاركة ترامب وعدد من القادة الإقليميين والدوليين، محاولةً الحفاظ على التوازن بين الضغوط الأمريكية والالتزامات العربية. 
ورغم اختلاف الظروف، يبقى المبدأ واحدًا: أن تكون مصر جسرًا بين العالمين، لا تابعًا لأيٍّ منهما.
 في زمن عبد الناصر، كانت فلسطين هي القضية المركزية للعرب جميعًا، واعتُبرت معركة وجود لا حدود. ناصر لم يتعامل معها كملف تفاوضي، بل كجزء من مشروع التحرر الوطني من الاستعمار الغربي. كان الدعم السياسي والعسكري للفلسطينيين جزءًا من هوية مصر الثورية، ومن واجبها القومي تجاه الأمة العربية. 
أما اليوم، ومع تعقّد المشهد الإقليمي، أصبحت القضية الفلسطينية محاطة بمصالح متشابكة وضغوط دولية ضخمة. تتحرك مصر بلغة “التهدئة” و”الحل الدبلوماسي”، وتسعى لوقف إطلاق النار وإعادة الإعمار، دون أن تغيب عن وعيها الرمزية التاريخية لدورها كوسيط نزيه.
 لكنّ الفارق الجوهري يكمن في تحوّل لغة الخطاب من خطاب المقاومة والتحرر في عهد ناصر إلى خطاب الواقعية السياسية وإدارة الأزمات في العصر الراهن. ومع ذلك، فإنّ كلا الموقفين يجتمعان على هدف واحد حماية الشعب الفلسطيني والحفاظ على دور مصر المركزي في القضية. 
خلال عهد عبد الناصر، كانت العلاقة بين القاهرة وواشنطن تتسم بالتوتر الدائم، خاصة بعد تأميم قناة السويس عام 1956، ورفض ناصر الانضمام إلى الأحلاف الغربية. بلغ التوتر ذروته بعد العدوان الثلاثي، حين اتضح أن مصر اختارت طريق الاستقلال الوطني الكامل عن النفوذ الخارجي. 
في المقابل، اليوم تعيش العلاقات المصرية الأمريكية مرحلة من البراغماتية المتبادلة. زيارة ترامب إلى مصر تُظهر أن واشنطن تدرك أن القاهرة لا تزال شريكًا محوريًا لا يمكن تجاوزه في ملفات الأمن والسلام في الشرق الأوسط. 

ومثلما واجه ناصر محاولات الضغط الغربي بثقة وسيادة، تسعى مصر اليوم لإدارة علاقاتها مع الولايات المتحدة دون التفريط في استقلالية قرارها الوطني، رغم الفارق الكبير في أدوات القوة بين الماضي والحاضر. 

كان جمال عبد الناصر في جوهره قائدًا شابًا خرج من صفوف الجيش ليقود ثورة حلمت بالعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية. كانت الثورة مشروع شباب، وصوت أمة تبحث عن كرامتها. اليوم، يواجه الشباب المصري والعربي تحديات جديدة : 
• بطالة
• اضطراب إقليمي
• وتشابك مصالح القوى العالمية. 

لكن يبقى السؤال نفسه الذي طرحه ناصر قبل سبعين عامًا: كيف نصنع مستقبلنا بأيدينا؟

 في برامج مثل “الزمالة الدولية لجمال عبد الناصر”، تُبعث من جديد فكرة إعداد جيل يؤمن بالمسؤولية القومية والعدالة الدولية، ويستطيع أن يوازن بين الانفتاح العالمي والهوية الوطنية. 
بين عبد الناصر ومصر اليوم، لا ينقطع الخيط بل يتجدّد. قد تغيّرت موازين القوى، وتبدّلت أدوات السياسة، لكن المبادئ الكبرى الاستقلال، العدالة، التضامن، ودعم فلسطين ما زالت تشكل جوهر الدور المصري في الإقليم والعالم.

 زيارة ترامب، كما كانت لقاءات ناصر مع قادة العالم قبل سبعين عامًا، ليست مجرد حدث سياسي، بل اختبار جديد لقدرة مصر على أن تظل صوتًا حرًّا في زمن تتغيّر فيه الموازين كل يوم.

 إنّ المقارنة بين الأمس واليوم ليست مقارنة بين زمنين، بل بين رؤيتين للعالم: واحدة ترى في مصر منارة للتحرر، وأخرى تسعى لجعلها محورًا للتوازن. وفي كليهما، تبقى روح عبد الناصر حاضر في ضمير الأمة، وفي إصرارها على أن تظل مصر كما كانت دائمًا: قلب العروبة النابض.