صحافة .. الخوف

صحافة .. الخوف
بقلم/ ياسر أبو معيلق
قصة لا علاقة لها بكأس العالم والمعايير المتبعة في أعتى وسائل الإعلام الغربية لتغطيته:
في إطار متابعتي لقضية الإفلاس الأكبر لهذا العام - شركة تداول العملات المشفرة "FTX"، وعلاقتها بشركة المضاربة "ألاميدا ريسيرتش" التي يملكها صاحب الشركة، سام بانكمان فريد، والمليارات من أموال المستثمرين والمودعين التي تبخرت في أقل من أسبوع، عرضتني قصة أراها - ربما - كاشفة لحال الإعلام عموماً:
رغم أن قضية "FTX" بدأت وانتهت في وقت لا يتجاوز الشهرين، إلا أن شخصاً واحداً رأى أن هذه الشركة سيكون مصيرها الإفلاس، وربما ما هو أسوأ، قبل حوالي سنة، أي في أوج مجد الشركة وصاحبها، والثناء المتواصل عليها وعليه في وسائل الإعلام.
هذا الرجل هو مضارب ومستثمر في البورصة يدعى مارك كوهودس، وقد جمع من الأدلة حول "FTX" وأدائها بما يكفي لإثارة الشكوك حولها، وقرر عرض تلك الأدلة على صحفيي الوسيلة الإعلامية الأكثر احتراماً في مجال التغطية الاقتصادية: موقع "بلومبرغ" الإخباري.
اجتمع كوهودس بخمس صحفيات من قسم العملات المشفرة في "بلومبرغ"، وقدم لهن الأدلة، ليفاجأ برفضهن التعامل مع الموضوع، أو حتى متابعة البحث فيه. يقول كوهودس إن الصحفيات رفضن بحجة أن "البحث مرهق للغاية"، وأنهن "سيفقدن حق الوصول إلى الشركة"!
"فقدان حق الوصول" في هذا السياق يعني أن الصحفي، إذا ما انتقد شركة ما، لن يستطيع لاحقاً الحصول على معلومات مباشرة أو إجراء مقابلات حصرية مع مسؤوليها، ولن تتم دعوته إلى مناسباتها وفعالياتها.
والأهم من ذلك، يمكن أن تقرر الشركة سحب إعلاناتها من المؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها ذلك الصحفي الناقد، وتذهب بأموال تلك الإعلانات إلى مؤسسة أكثر تماهياً مع أجنداتها...
كما نعلم الآن، بحكمة الناظر إلى أحداث الماضي بعين المستقبل، أدى تقاعس تلك الصحفيات عن النظر في الشكوك حول "FTX" إلى تأخر معرفة المودعين والمستثمرين لسوء حالها، وبالتالي خسارة عشرات المليارات من الدولارات.
لطالما يتغنى الكثيرون بمحاسن الصحافة غير التابعة لجهات حكومية، فهي صحافة متحررة من قيود الرقابة أو ضغط الميزانية، ومضطرة للاستثمار في شعبيتها وانتشارها بين الجمهور كي تحصل على المال الكافي للعمل، سواء من خلال اشتراكات القرّاء أو الإعلانات التي تستغل ذلك الانتشار لتسويق منتجاتها.
هذا الاضطرار كثيراً ما يقود إلى الإبداع والتميز في العمل الصحفي، ولكنه أيضاً يخفي جانباً مظلماً: التبعية اللاإرادية التي تأتي مع أموال المعلنين، ما يجبر المؤسسة الإعلامية على البقاء على الجانب الحسن من الشركات - وخصوصاً الكبرى - إذا ما أرادت الاستمرار في الحصول على تغطية خاصة منها، أو أموال إعلاناتها.
لهذا، نجد - وأقول ذلك كشخص عمل في الإعلام الغربي لأكثر من عقد من الزمان - نوعاً من الرقابة الذاتية لدى الصحفيين: رقابة ليست مفروضة من فوق أو مدونة في كتيب المعايير الصحفية الذي يوزع على كل موظف جديد في المؤسسة، بل رقابة تفرضها الحاجة إلى الدخل والجمهور والانتشار... و"حق الوصول".
الأمر كذلك ينسحب على الجهات الحكومية. فالمسؤول، رئيساً كان أم وزيراً أم ضابطاً كبيراً، عندما يقرر منح جهة إعلامية تصريحاً أو مقابلة، فإنه لن يختار الصحيفة أو القناة التي تنتقده باستمرار، بل سيميل أكثر إلى الجهة التي تمدحه أو تبرر أخطاءه، أو حتى تنتقده بشكل أقل من أقرانها في المجال الصحفي.
نتذكر هنا مثال الرئيس الأمريكي ترامب وتقريعه المستمر لصحفيي "سي إن إن" الناقدين له ولسياساته، ووصف قناتهم بقناة الكذب، بينما اختص قناة "فوكس نيوز" المادحة له بمقابلات ومعلومات حصرية، جعلتها المصدر الأول لمعلومات البيت الأبيض أثناء رئاسته.
صحفيات "بلومبرغ" كنّ صريحات مع المضارب مارك كوهودس، وقلن إنهن سيخسرن حق الوصول لشركة "FTX" إذا ما كتبن تقريراً ناقداً لها ولصاحبها، وهذا يُحسب لهن. لكنهن تحركن بدافع الرقابة الذاتية، والخوف على مستقبلهن الوظيفي إذا ما قررت "FTX" سحب أموال إعلاناتها من "بلومبرغ" في حال اعتراضها على تقريرهن.
علينا - معشر الصحفيين - أن نكون أكثر صراحة تجاه دوافعنا الحقيقية، وما يحركنا لإجراء تحقيق صحفي أو رفض القيام به... حبذا لو كان العالم أكثر فضيلة لأنصحكم بعدم الالتفات إلى دخل مؤسساتكم الذي قد يتراجع بسبب تحقيقاتكم الناقدة، ولكن العالم ليس فاضلاً، ولا خيّراً حتى...
الخوف جزء من الصحافة، شئنا أم أبينا، ومن ينكر ذلك، ربما يحتاج إلى التفكير في امتهان مهنة أخرى.